شهد السودان أو ل
كيان حضري في تاريخ الإنسانية، بذا نطقت حفريات كرمة.
وفي القرن التاسع
عشر شهد السودان دعوة وهبة وثورة جسدت تطلعات أهل القبلة في البعث
الإسلامي وتحرير البلاد الإسلامية، وجسدت كل تطلعات العالم الذي
استهدفه الاستعمار في التصدي للاستعمار والتحرير منه. بل جسدت في
الإنجاز والإعجاز آمال المستضعفين في الأرض.
وفي القرن العشرين
حقق رواد الحركة الوطنية السودانية في أول يناير 1956م استقلالا
ينبغي أن نسميه استرداد الاستقلال. بحيث يكون الاستقلال هو يوم 26
يناير 1885 واسترداده هو يوم أول يناير.
كان استرداد
استقلال السودان في أول يناير 1956م الأكثر نقاءا من حيث تحقيق
سيادة وطنية بلا شوائب، وديمقراطية بلا نواقص. كان استقلالا قياسيا،
وكانت ديمقراطية قياسية. الاستقلال القياسي عرض بلادنا لمواجهة
الأمن والدفاع والتنمية بلا رعاية أجنبية وبلا تحالفات. هذا بينما
كانت البلدان المستقلة الأخرى مدعومة برعاية الدولة المستعمرة
السابقة أو بغيرها في كثير من الحالات. والديمقراطية القياسية عرضت
البلاد لمغامرات الشموليين فأذاقوها في عهودهم الثلاثة البأساء
والضراء واحتلوا ثلاثة أرباع عمر السودان المستقل.
إن اعتماد السودان
المستقل على نفسه، وممارسة السودان المستقل للديمقراطية كاملة
الدسم، وهما مفخرة للوطن، سببا لأهله تجارب شاقة سببت قصورا في
الممارسة الديمقراطية وسهلت مهمة الإطاحة بها.
لم يتمكن السودان
الديمقراطي المستقل من تحقيق الاستقرار المنشود والشرط المطلوب
لبناء الوطن وتحقيق التنمية.
ثلاثة عوامل أطاحت
باستقرار البلاد وكادت أن تودي بوجوده، هي:
أولا: الحرب
الأهلية التي اندلعت في 1963 وتجددت في 1983م واستمرت حتى
الأمس القريب.
ثانيا:
الديكتاتورية التي حكمت البلاد في ثلاثة عهود فأودت بحقوق الإنسان
والحريات العامة ووظفت موارد البلاد لقهر الشعب واتبعت سياسات
مرتجلة خاطئة.
ثالثا:
الأيديولوجية التي باسم الاشتراكية ثم باسم الإسلام حاولت القفز
فوق الواقع الاجتماعي فأتت للبلاد بنتائج عكس ما وعد به
الانقلابيون.
لقد كان السودان
في مطلع استقلاله واعدا، فنظامه السياسي كفل حقوق الإنسان والحريات
العامة، ونظامه الاقتصادي كان ينتج ما يكفي لمعيشة أهله ويصدر ما
يكفي لسداد فاتورة الاستيراد وزيادة. وكان الجنيه السوداني يساوي
3.5 دولارا، وكانت ميزانية البلاد الداخلية تحقق فائضا لتمويل
التنمية. وكانت البلاد غير مدينة لأحد، وكانت الدولة دولة رعاية
اجتماعية توفر خدمات صحية وتعليمية مجانية وتدعم المواد
الاستهلاكية.
هذا المشهد الوردي
قضت عليه العوامل الثلاثة: الحرب الأهلية والديكتاتورية
والأيديولوجية. ونتيجة لذلك وقعت البلاد فريسة لاستقطاب أيديولوجي
وثقافي حاد. ولعدم استقرار سياسي، ولحرب أهلية مزمنة، ولتدهور
تنموي ولانهيار في الخدمات، وغيرها من مشاهد الإخفاق التي دفعت
بالسودان لحافة أن يكون أو لا يكون!!.
ولكن أشد ساعات
الليل إظلاما هي التي تسبق الفجر، فالسودان مع كل دلائل الإخفاق
يشهد اليوم لأول مرة الظواهر الآتية:
-
لأول مرة يوجد
ضيق بالحرب في الشمال والجنوب، ولأول مرة تبرز مسببات الحرب
الأهلية وتبرز معالم حسمها وإمكانية سلام عادل.
-
كانت النظم
الشمولية تصر على موقفها حتى يطاح بها. وتأتي النظم
الديمقراطية بردة الفعل على الشمولية فتندفع في ممارسات تركز
على الحرية دون اعتبار للاستقرار. لذلك عانت البلاد من أرجوحة
الديمقراطية والشمولية. اليوم ولأول مرة يبدي نظام شمولي
استعداده للاعتراف بالآخر والحوار معه للاتفاق على مشروع سلام
عادل وتحول ديمقراطي محصن من ثغرات الماضي.
-
لأول مرة يهزم
فكر الشمولية وتهزم فكرة الحرب ويظهر استعداد واسع لإزالتهما
والتركيز على القضايا الوطنية وهي قضايا: التأصيل والتحديث-
والتنمية- وبناء الوطن.
-
لأول مرة يوجد
مناخ إقليمي ودولي مستعد ومتأهب لدعم تحولات إيجابية في
السودان في الطريق للحل السياسي الشامل.
هذه العوامل
الأربعة تشكل ظروفاً موضوعية مناسبة جداً لتمكين السودان من الخروج
من أزماته. فإذا واكب هذا ظروف ذاتية داخلية بمعنى وجود إرادة
سياسية قوية في الداخل وظروف ذاتية خارجية بمعنى وجود آليات مساعدة
لبلوغ الإرادة السياسية مقاصدها فان السودان سوف يعبر إلى حيث
التأصيل والتحديث والتنمية وبناء الوطن والسلام والاستقرار
الديمقراطي.
إن أمام هذا الجيل
من أهل السودان الاستجابة الناجزة والواعدة أو التقاعس فإضاعة
الفرصة الذهبية واكتساب لعنة الأجيال.